.سيف الإسلام القذافي حي يرزق. ويريد استعادة ليبيا


قبل عشر سنوات وبالقرب من مدينة “أوباري” الليبية الصحراوية، اعترضت مجموعة من المتمرّدين المسلّحين موكبًا صغيرًا أثناء محاولة الفرار جنوبًا باتجاه النيجر. استوقف المسلّحون السيارات ليجدوا رجلًا أصلع صغير السنّ تغطي الضماداتُ يدَه اليمنى. رأوا وجهًا كان دائم الظهور على شاشات التلفزيون الليبي. إنه سيف الإسلام القذافي، الابن الثاني لديكتاتور ليبيا سيء السّمعة وأحد الأهداف الرئيسية للمتمرّدين.

قبل اندلاع الانتفاضة الليبية في فبراير عام 2011، كان الغرب يعقد الآمال على سيف الإسلام لإحداث إصلاح تدريجي في البلاد. فمظهره المهندم ونظّارته الطبية وطلاقته في الحديث باللغة الإنجليزية جعلته يبدو مختلفًا تمامًا عن أبيه الذي عُرف بمظهره المبهرج وطباعه الغريبة. درس سيف الإسلام في “كلية لندن للاقتصاد” وتحدّث لغة الديمقراطية وحقوق الإنسان. وكوّن صداقات مع علماء سياسة مرموقين، وحاضَرَ الشباب الليبي عن التربية المدنية، حتى إن بعض أصدقائه في الغرب اعتبروه المُنقِذ المنتَظر لليبيا.

لكن عندما قامت الثورة، سارع سيف الإسلام بالانضمام إلى حملة القمع الغاشمة التي أطلقها نظام القذافي. كان من السهل على الثوار الذين انتصروا بعد تسعة أشهر أن يكافئوه بالإعدام دون محاكمة مثلما فعلوا مع أبيه وعدد من كبار المسئولين بالدولة، لكنه، ولحسن حظه، وقع أسيرًا لدى كتيبة ذات توجّه مستقل حمته من الفصائل المتمردة الأخرى ونقلته جوًّا إلى مدينة “الزنتان”، موطنها في الجبال جنوب غربي العاصمة. ولأنه كان مطلوبًا أيضًا للمحكمة الجنائية الدولية، فقد اعتُبر رهينةً غالية. وظل أسيرًا لدى الزنتانيين حتى بعد انتخابات ليبيا عام 2012.

وفي السنوات التالية، انقسمت ليبيا إلى ميليشيات متناحرة، ونهب الإرهابيون مخازن الأسلحة مما أدى إلى تأجيج حركات التمرّد والحروب في أنحاء شمال أفريقيا والشرق الأوسط. وتفاقم الاتّجار بالبشر، مما تسبب في إرسال عدد كبير من المهاجرين إلى أوروبا عبر البحر الأبيض المتوسط. وأسّس تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام “داعش” خلافةً مصغّرة على الساحل الليبي. وشيئًا فشيئًا، بدأ الليبيون يغيّرون نظرتهم إلى سيف الإسلام الذي سبق أن تنبأ بانقسام ليبيا في الأيام الأولى من الثورة عام 2011. وأفادت التقارير بأن خاطفيه أطلقوا سراحه، بل وأنه ينوي الترشّح للرئاسة، غير أن مكانه لم يكن معروفًا لأحد.

في صباح يوم عاصف حارٍّ في مايو الماضي، غادرتُ فندقي في طرابلس وجلستُ في المقعد الخلفي لسيارة سيدان رمادية متهالكة. كان سائق السيارة يُدعى سالم وكنتُ قد تحدثتُ معه من قبل دون أن ألتقيه قط. انتابني كثيرٌ من التوتر، فقد قضيتُ عامين ونصف أرتّب لهذه المقابلة مع سيف الإسلام، وخلال هذه الفترة تحدثتُ معه عدة مرات عبر الهاتف. لكنني الآن أتساءل عن الصوت الذي كنت أسمعه على الطرف الآخر من الهاتف. فلم يحدث أن التقاه أي صحافي أجنبي منذ عشر سنوات. وقد أخبرتني منظمة “هيومان رايتس ووتش” أنه لا يوجد دليل على أن سيف الإسلام حيٌّ منذ عام 2014. ومعظم الأشخاص الذين قابلتُهم في ليبيا قالوا إنهم لا يعرفون إن كان حيًّا أم ميّتًا.

كنا في شهر رمضان، وكادت شوارع العاصمة تخلو من الناس والسيارات. لم نمرّ على أي من نقاط التفتيش التي توقعتُ المرور بها ونحن نغادر المدينة باتجاه الجنوب الغربي نحو جبل “نفوسة”. وبعد ساعتين تقريبًا، صعدنا ببطء وسط قمم بنية داكنة حتى وصلنا إلى هضبة “الزنتان”. وعلى أطراف إحدى القرى، أوقف سالم السيارة وطلب مني أنا والمصوّر الذي يرافقني، جهاد نجا، الانتظار.

لم يمض وقتٌ طويل حتى توقفت خلفنا سيارةٌ بيضاء من طراز تويوتا لاند كروزر، وخرج منها رجل يرتدي ثوبًا ناصع البياض. طَلب منا أن نترك هواتفنا في سيارة سالم. كانت سيارة لاند كروزر مصفّحة ذات أبواب ثقيلة جدًّا حتى إنها حجبت جميع الأصوات من الخارج. عرّف السائق نفسه بأنه محمد، ثم قاد السيارة دون أن ينبس بكلمة لمدة عشرين دقيقة تقريبًا، إلى أن دخل مجمّعًا سكنيًّا محاطًا بالبوابات وأوقف السيارة أمام فيلّا من طابقين تبدو عليها مظاهر الترف. فتح محمد الباب الأمامي، ودلفتُ عبر مدخلٍ خافت الإضاءة.

تقدّم نحوي رجل ومدّ يده قائلًا: “مرحبا!”

لم يكن لديّ شكٌ في أنه سيف الإسلام، مع أن ملامحه بدت أكبر سنًّا وكست وجهه لحيةٌ طويلةٌ غزاها الشيب. كان إبهامُ يده اليمنى وسبّابتها مبتورين – نتيجة إصابته بشظية في إحدى الغارات الجوية عام 2011 على حدّ قوله. كان يرتدي عباءة سوداء خليجية الطراز تزيّنها أهدابٌ ذهبية، كأنه رئيس دولة، ووشاحًا ملفوفًا بشكلٍ مهندمٍ حول رأسه. لو أن سيف الإسلام ورث شيئًا واحدًا فقط عن أبيه، فهو أسلوبه المتكلّف. قادنا إلى قاعةٍ جلسنا فيها على أرائك جديدة بلونٍ مائلٍ إلى الخُضرة. وغلبت مظاهر الترف والبهرجة على أثاث القاعة، بسجّادها السميك وثريّاتها الكريستالية وستائرها الأرجوانية. وفي تنافر واضح مع هذه الأجواء، عُلّقت على الجدار لوحةٌ بها صورة جبال وإحدى بحيرات الألب. لم يكن في المنزل أحدٌ غيرنا.

مرت فترةٌ من الصمت المشوب بالارتباك قبل أن أسأله إن كان لا يزال سجينًا، فقال إنه رجلٌ حرٌّ وإنه يرتّب لعودته إلى الساحة السياسية. أوضح أن المقاتلين الذين اعتقلوه قبل عشر سنوات قد تحرّروا من وهْم الثورة وأدركوا في نهاية المطاف أنه قد يكون حليفًا قويًّا لهم. ارتسمت على وجهه ابتسامة وهو يصف تحوّله من أسير إلى أمير منتظر، فقال: “هل لك أن تتخيل؟ الرجال الذين كانوا حرّاسي هم الآن أصدقائي.”

استغلّ سيف الإسلام غيابه عن الساحة في مراقبة الأوضاع السياسية في منطقة الشرق الأوسط والعمل بهدوء على إعادة تنظيم القوة السياسية التابعة لأبيه والمعروفة باسم “الحركة الخضراء”. ورغم تحفّظه بشأن الحديث عن احتمالية ترشّحه للرئاسة، فهو يعتقد أن الحركة التي يقودها بإمكانها أن تعيد للبلاد وحدتها المفقودة. والحقيقة أن الشعار الذي اختاره لحملته نجح في العديد من الدول، بما فيها دولتنا، وهو: السياسيون لم يقدّموا لكم شيئًا سوى المعاناة. حان وقت العودة إلى الماضي. قال سيف الإسلام: “لقد اغتصبوا بلادنا وأذلّوها. ليس لدينا مالٌ ولا أمنٌ ولا حياة. إذا ذهبتَ إلى محطة الوقود، فلن تجد وقودًا. نحن نصدّر النفط والغاز إلى إيطاليا – نحن نضيء نصف إيطاليا ونعاني نحن من انقطاع الكهرباء. ما يحدث تخطّى حدود الفشل. إنه مهزلة.”

بعد مرور عشر سنوات على حالة النشوة التي صاحبت الثورة، يتفق معظم الليبيين مع هذه الرؤية. ففي طرابلس، تحتل أسراب النورس “الفندق الكبير” الذي لم يكتمل بناؤه، والذي يتخذ شكل كتلة رمادية عملاقة من الطوب الإسمنتي والرافعات المطلّة على المحيط. وهذا المشروع واحدٌ من عدة مشاريع دعمها سيف الإسلام، لكنه لم يُستكمَل بناؤه منذ عام 2011. وهناك العديد من المباني الخاوية الأخرى التي تشوّه سماء ليبيا بعد عزوف الممولين الأجانب عن المخاطرة بأموالهم في ظل هذه الأوضاع المتردية. كدّس بعض أمراء الحرب في ليبيا ثروات طائلة – تضخّ ليبيا نحو مليون برميل من النفط يوميًّا – في حين يعاني أغلب الناس من انقطاع الكهرباء لمدة ساعات في اليوم، إلى جانب معاناتهم للحصول على مياه الشرب. وتقف آثار ثقوب الرصاص في طرابلس وغيرها من المدن الكبرى شاهدًا على حرب دارت رحاها على نحو متقطع على مدار عقد كامل.

تنعم ليبيا في الوقت الحالي بحالة من السلام. وخلال الأسابيع الثلاثة التي قضيتُها هناك، كنتُ أتجولُ بالسيارة في غرب البلاد دون خوف من مواجهة جبهة قتال هنا أو هناك. بل إنني رأيتُ بعض مظاهر النظام، مع انتشار الشرطة بملابسهم الرسمية في الشوارع وحدوث انخفاض ملحوظ في حوادث الاختطاف والاغتيالات. ويعود الفضل في ذلك إلى حد كبير للجهود الحثيثة لدبلوماسيي الأمم المتحدة الذين توسّطوا في شهر أكتوبر لوقف إطلاق النيران بين أكبر فصيلين في ليبيا، ثم أقنعوهما بحضور سلسلة لقاءات أسفرت عن تشكيل حكومة وحدة وطنية مؤقتة. ومن المقرر أن تُعقد انتخابات برلمانية ورئاسية جديدة في شهر ديسمبر.

يخشى كثيرٌ من الليبيين من أن هذا السلام لن يستمر. فخلف ستار الوحدة الوطنية، لا تزال ليبيا منقسمة إلى جزأين يخضع أحدهما، وهو الجزء الشرقي، لسيطرة القائد العسكري المتسلط خليفة حفتر. أما زعماء الجزء الغربي، فليس لديهم “ولو مثقال ذرة من الثقة” في حفتر، حسبما أخبرني خالد المشري، رئيس المجلس الأعلى للدولة في ليبيا. ومن غير المرجح أن تنجح الانتخابات في رأب هذا الصدع، بل إنها قد تعيد البلاد إلى حالة الحرب إذا فاز فيها شخص مثير للخلافات، وليس هناك من هو أكثر إثارةً للخلافات من سيف الإسلام.

رغم اختفاء سيف الإسلام عن الساحة، فإن تطلعاته للرئاسة تؤخذ على محمل الجدّ. فخلال المحادثات التي أسفرت عن تشكيل الحكومة الليبية الحالية، سُمح لمؤيديه بالمشاركة، ونجحوا بمهارة إلى الآن في إلغاء شروط للانتخابات كانت ستحول بينه وبين الترشّح. وتشير بيانات استطلاعات الرأي المحدودة في ليبيا إلى أن قطاعًا عريضًا من الليبيين – بنسبة 57 بالمائة في منطقة واحدة – قد عبّروا عن “ثقتهم” بسيف الإسلام. وقبل عامين، قيل إن أحد منافسيه دفع 30 مليون دولار لقتله (في محاولة ليست الأولى لاغتياله)، فيما اعتُبر دليلًا تقليديًّا على مكانته السياسية.

تُستمَد شعبية سيف الإسلام من مشاعر الحنين إلى ديكتاتورية أبيه، وهو شعور يزداد انتشارًا في ليبيا وفي المنطقة كلها. فحتى في تونس، التي انطلقت منها شرارة انتفاضات الربيع العربي أواخر عام 2010 وكانت ثورتها قصة النجاح الوحيدة، يتألف الحزب السياسي الأكثر شعبية فيها الآن من جماعة متشددة يهاجم قائدها باستمرار ثورة الياسمين في تونس واصفًا إياها بالكارثة. لم يكن قد مرّ على وصولي إلى ليبيا سوى بضعة أيام عندما دخلتُ استراحةً على أحد الطرق السريعة ووجدتُني أمام خطاب للعقيد معمر القذافي من فترة الثمانينات يذاع على قناة الحركة الخضراء التلفزيونية في القاهرة. وخلال إفطار أحد الأيام في شهر رمضان، سألتُ أربعة ليبيين في أوائل العشرينات من العمر عمن سيختارونه لرئاسة ليبيا، فذكر ثلاثة منهم اسم سيف الإسلام. كذلك أخبرتني محامية ليبية أن عملها غير الرسمي لقياس الرأي العام يشير إلى أن ثمانية أو تسعة من كل عشرة ليبيين سيصوّتون لسيف الإسلام.

لا شكّ أن فوز سيف الإسلام في الانتخابات سيمثل انتصارًا رمزيًّا للحكّام العرب المستبدين الذين يشاركونه كراهية الربيع العربي. وسيحظى هذا الفوز بالترحيب أيضًا من الكرملين الذي دعم من قبل أصحاب النفوذ في منطقة الشرق الأوسط والذي يظل طرفًا عسكريًّا مؤثرًا في ليبيا بجنوده ونحو 2000 مرتزق في الميدان. وقد أخبرني دبلوماسي أوروبي ذو خبرة طويلة في الشأن الليبي: “يعتقد الروس أن سيف الإسلام قد يفوز”. ومن الواضح أن أطرافًا خارجية أخرى تدعم سيف الإسلام، لكنه تكتَّم حول الحديث عن هذه النقطة. ففي السنوات الأخيرة، كانت ليبيا ساحة حرب بالوكالة لعدد من القوى الخارجية من بينها مصر وروسيا وتركيا والإمارات العربية المتحدة. ولكن يظل من الصعب تحديد مدى تأثير تلك الدول على الانتخابات. أما في حالة الولايات المتحدة، التي قادت حملة حلف شمال الأطلسي “الناتو” التي أطاحت بمعمر القذافي، ستسبب عودة أسرة القذافي إلى الحكم حرجًا لها على أقل تقدير.

يواجه سيف الإسلام أيضًا عقبة كبرى خارج ليبيا، فهو مطلوب للمحكمة الجنائية الدولية على خلفية ارتكابه جرائم ضد الإنسانية، بسبب دوره في قمع المعارضين عام 2011. وقد حُوكم في دعوى قضائية أخرى في طرابلس عام 2015، حيث ظهر على شاشة فيديو خلف القضبان في بلدة “الزنتان”، وانتهت المحاكمة بإدانته والحكم عليه بالإعدام رميًا بالرصاص. (يحق له استئناف الحكم بموجب القانون الليبي). أخبرني سيف الإسلام أنه واثق من قدرته على تخطي تلك المسائل القانونية إذا اختارته أغلبية الشعب الليبي ليكون قائدًا لهم.

يستمد سيف الإسلام ميزة سياسية من اسمه، وميزة أخرى من الواقع الغريب بأن عددًا كبيرًا من الليبيين الآن يعتبرون أن ابن معمر القذافي – نفس الابن الذي توعّدهم في خطابه عام 2011 بسيل “أنهار من الدماء” – هو أطهر مرشّحي الرئاسة يدًا. فجميع المتنافسين السياسيين الآخرين وضعوا أنفسهم موضع الشبهات في الآونة الأخيرة، باستغلال نفوذهم لتحقيق مكاسب شخصية أو بعلاقاتهم مع البلطجية حملة السلاح الذين اعتُبروا ذات يوم أبطال الثورة.

يَعتبر كثيرٌ من الليبيين أن عودة سيف الإسلام هي السبيل إلى إغلاق الباب على عقد ضاع هدرًا، مع أنهم لا يعرفون على وجه التحديد شكل المستقبل الذي قد يحمله لهم. ولطالما كان سيف الإسلام لغزًا محيّرًا. علّق الناس في الداخل والخارج آمالهم عليه لأنه كان يُعتبر وريث القذافي، وهي فكرة عزّزها بنفسه عندما أسّس مجموعة إعلامية أطلق عليها اسم “ليبيا الغد” لتطوير مشاريعه المفضّلة. ومع أنه لم يكن يشغل منصبًا رسميًّا ضمن نظام القذافي، فقد دلّل والده على أهميته بتفويضه للتوسط في نزاعات دبلوماسية رفيعة المستوى، من بينها قضية التعويضات التي دفعتها ليبيا عن تفجير رحلة “بان آم 103” فوق مدينة “لوكربي” في اسكتلندا عام 1988. وربما كان لسيف الإسلام دورٌ أيضًا في قرار أبيه بالتخلّص من أسلحة الدمار الشامل في ليبيا.

أما في كلية لندن للاقتصاد، فقد تقرّب سيف الإسلام من المفكّرين الذين اعتبروه صادقًا في رغبته بتحقيق إصلاح ليبرالي. وفي عام 2005، دعا منظمة “هيومان رايتس ووتش” إلى ليبيا لزيارة المكان الذي شهد مذبحة في أحد السجون. ولاحقًا، أقنع والده بإطلاق سراح السجناء السياسيين، ودعا علنًا إلى إصلاح السجون وإلى نظام حكم دستوري. وفي مأدبة عَشاء بالقرب من لندن عام 2003، طلب سيف الإسلام الجلوس إلى جوار موظف كونغرس يهودي من الولايات المتحدة كان رئيسُه من أشد المدافعين عن إسرائيل. عندما سأله موظف الكونغرس عن أكثر شيء تحتاجه ليبيا، أجاب: “الديمقراطية”.

كان موظف الكونغرس يدرك أن النظام الليبي يروّج لنفسه على أنه نظام ديمقراطي، فظنّ أنه أخطأ السمع.

سأله مجددًا: “ليبيا تحتاج مزيدًا من الديمقراطية؟”

أجاب سيف الإسلام: “كلا؛ مزيد من الديمقراطية يوحي بأن لدينا بعضًا منها.”

في ليبيا، أطاح المتشددون المحيطون بأبيه بأفكاره الديمقراطية، ودأب منتقدوه على تسميته “سيف الأحلام”. وكان الانغماس في الملذات أحد طباعه؛ فكان يقتني زوجًا من النمور البيضاء، وتواترت الأنباء عن احتفالاته المترفة بأعياد ميلاده في سان تروبيه وموناكو، وعن رحلات الصيد التي يقوم بها في أوروبا ونيوزيلندا. كان يتصارع على السلطة مع أشقائه الخمسة، وتحديدًا شقيقه المعتصم الذي كان قائدًا عسكريًّا. وكان يبدو، في بعض الأحيان، ضائعًا ومشتتًا بين الشرق والغرب لا يعرف كيف يفي بتوقعات أبيه.

رغم ذلك، لم يكن هناك من هو أفضل من سيف الإسلام للتوسط من أجل الوصول إلى تسوية بين نظام أبيه والمتمردين عام 2011، إذ كانت تربطه صلات وثيقة بشخصيات بارزة في حركة المعارضة حيث سبق وأن ضمّ اثنين منهم إلى نظام القذافي لدفع حركة الإصلاح قدمًا. وحتى الإسلاميين الذين شاركوا في احتجاجات 2011 كانوا مدينين له على دوره في إصدار العفو الذي خرج قادتهم بموجبه من السجون قبل بدء الانتفاضة.

عندما اندلعت أولى احتجاجات الربيع العربي في تونس أواخر عام 2010، رحّب بها سيف الإسلام. كان يشعر بخيبة الأمل والإحباط إزاء بطء وتيرة التغيير في نظام أبيه، فانسحب إلى منزله المترف في لندن مترددًا بشأن العودة إلى ليبيا. وعندما عاد إلى طرابلس، عقب الاحتجاجات الأولى هناك في فبراير 2011، شرع وقتها في كتابة خطاب مصالحة تطرق فيه إلى مطالب المتظاهرين ووعد بإحداث تغييرات جذرية، حسبما أفاد أحد أصدقائه المقربين.

أخبرني سيف عن شعوره بالخوف على ليبيا في الأيام الأولى بعد عودته، فقال: “حذّرتُ الجميع ‘أسرعوا الخطى في مشاريع الإسكان وفي الإصلاحات الاقتصادية، لأنكم لا تعرفون ما الذي سيحدث في المستقبل.’ لإجهاض أي مؤامرة ضد ليبيا، جئتُ إلى بنغازي وقلت: ‘علينا أن نُسرع الخطى.’ غير أن عناصر عدّة داخل الحكومة كانت تعمل جاهدةً ضدي.”

وفي 20 فبراير2011، أعلنت وسائل الإعلام الحكومية الليبية أن سيف الإسلام سيلقي خطابًا تلفزيونيًّا. رأى بعض الليبيين الذين أعرفهم أن هذا الخطاب سيكون لحظة انتصار للمعارضة. توقّعوا أن يعلن سيف الإسلام تنحي أبيه إيذانًا ببدء عهد جديد من الإصلاحات الليبرالية.

لكن بدلًا من ذلك، أدار الليبيون أجهزة التلفاز ليروا سيف الإسلام جالسًا في وضعية متهدّلة أمام طاولة، تطلّ من ورائه خريطة ضخمة للعالم باللونين الأخضر والأبيض، وتظهر قارة أفريقيا خلف رأسه كأنها خيط من الدخان. كان يرتدي بدلة وربطة عنق باللون الأسود. بدا منزعجًا تمامًا، يتدلى ذقنه حتى كاد يلمس صدره. استهل كلامه بوصف الانتفاضات التي اجتاحت العالم العربي بأنها “عاصفة ديمقراطية” كان يتوقعها. لكنه انتقل إلى وصف الاحتجاجات في ليبيا، التي كانت قد بدأت قبل ثلاثة أيام بمظاهرة في مدينة “بنغازي”، بأنها صنيعةُ المجرمين ومتعاطي المخدرات. اتهم سيف الإسلام الليبيين في الخارج باستغلال الأحداث وتأجيج العنف، وحذّر من أن ليبيا ليست تونس ومصر، لأن طبيعتها القبلية قد تفككها بسهولة إلى دويلات وإمارات. تنبّأ بحدوث حرب أهلية، واختراق حدود البلاد، وحدوث هجرة جماعية، وبأن ليبيا ستصبح معقلًا للجماعات الإرهابية.

استطرد سيف الإسلام في خطابه: “سيتم حرق وتدمير كل شيء في ليبيا، وسنحتاج إلى 40 سنة أخرى حتى نتفق على إدارة هذه البلاد، لأن كلّ واحد منا سينصّب نفسه رئيسًا، وسينصّب نفسه أميرًا، وكل واحد سيجعل من منطقته دولة.”

سرعان ما أصبح هذا الخطاب الكارثي نقطة تحول في مسار الانتفاضة، إذ غيّر انطباع الليبيين عن سيف الإسلام إلى الأبد. كنتُ في بنغازي بعد إلقاء الخطاب مباشرةً، ووصف المعارضون الليبيون الذين أعرفهم الخطاب بأنه سقوط الأقنعة، وأن هذا هو الوجه الحقيقي لسيف الإسلام. ورأى الكثيرون أنه كان يتحدث باسم النظام وأنه أطلق تهديدًا حقيقيًّا بشن الحرب. أما معارفه القدامى في الغرب، فقد نأوا بأنفسهم عنه أو افترضوا أنه ألقى هذا الخطاب تحت تهديد مسدس مصوّب إلى رأسه. ودفع آخرون، ممن تحصّلوا على أموال من مؤسساته، الثمن، من بينهم رئيس “كلية لندن للاقتصاد” الذي استقال من منصبه في شهر مارس من العام نفسه.

يمكن قراءة الخطاب قراءةً مختلفة اليوم. فسيف الإسلام، الذي كان على خلاف طويل مع المتشددين، لم يكن في موقف يؤهله للتهديد بالحرب. ربما كان يدرك أكثر من غيره طبيعة نظام القذافي وأنه نظام هشّ ووحشي. فعندما التقيته في مايو، أخبرني أنه ألقى الخطاب بعد وقت قصير من زيارة أبيه، وفي رأيي أن الخطاب كان العامل الأساسي لتحوّله السياسي. ظل سيف فخورًا بخطابه وقال إن أغلب ما تنبّأ به قد تحقق بالفعل.

يرى سيف الإسلام أن إدارة الرئيس باراك أوباما، وليس معمر القذافي، هي من يتحمل مسئولية الدمار الذي حلّ بليبيا. وربما يكون محقًّا في ذلك. فعندما اندلعت الانتفاضة الليبية، واجه الأمريكيون نفس السؤال الذي واجهوه لاحقًا مع سوريا: هل يجدر بك تدمير دولة إذا كنت لا ترغب بتحمل عبء إعادة بنائها؟ في حالة سوريا، كانت الإجابة بالنفي. أما في ليبيا، فقد اتُّخذ قرار بدعم حملة الناتو العسكرية تحت ضغوط هائلة في الوقت الذي حذر فيه دعاة حقوق الإنسان من مذبحة وشيكة (استنادًا إلى أدلة مختلف على صحتها). دمّرت ضربة الناتو الجوية عام 2011 بعض المناطق في ليبيا، وفي العالم التالي تخلّت الولايات المتحدة عن ليبيا بعد اغتيال الجهاديين لسفيرها جون كريستوفر ستيفنز وثلاثة أمريكيين في بنغازي. وفي السنة الأخيرة من رئاسة أوباما، أقرّ بأن أكبر خطأ ارتكبه أثناء توليه الرئاسة كان غياب التخطيط لمرحلة ما بعد القذافي في ليبيا.

لا يزال الخلاف قائمًا حول قرار أوباما الأوّلي بالتدخل في ليبيا. فبعد القصف الجوي لقوات الناتو على ليبيا، بدأت مساعي وقف إطلاق النيران، لكن المتمردين أصروا على رفض أي هدنة قبل تنحّي القذافي. لم يتنحَ القذافي، ولم يكن سيف الإسلام مستعدًا لخيانته.

قال سيف عن المتمردين: “كان العالم بأسره يقف معهم.” لم يكونوا بحاجة للتوصل إلى تسوية. استشعرتُ حسرةً في صوته عندما سألتُه عن زملائه القدامى مثل محمود جبريل، الذي ضمّه سيف الإسلام إلى الحكومة عام 2007 بوصفه إصلاحيًّا والذي أصبح لاحقًا رئيس الوزراء في المجلس الانتقالي عام 2011. تحدّث حديثًا مبهمًا عن النفاق، وقال إن وسائل الإعلام العربية شيطنت نظام القذافي إلى درجة جعلت من المستحيل إقامة حوار بين الجانبين. قال إن المتمردين عقدوا العزم على تدمير الدولة، وأن أي مجتمع قبلي مثل ليبيا يضيع بدون دولة. ثم أضاف: “ما حدث في ليبيا لم يكن ثورة. يمكنك أن تسميها حربًا أهلية أو أيام شؤم، لكنها لم تكن ثورة.”

وصف سيف الإسلام ربيع وصيف 2011 بمسلسل من الأزمات السريالية. في البداية، كان يزور أبيه كل يوم تقريبًا في خيمة منصوبة على الأرض في “باب العزيزية”، وهو مجمّع مترامي الأطراف تحيط به أسوار عالية كان مقرًّا للقذافي. كان يلتقي بين الحين والحين ببعض العاملين في الصحف الأجنبية ممن كانوا يحتمون في أحد الفنادق في طرابلس. يقول سيف إنه تلقى اتصالات هاتفية من زعماء أجانب كانوا يعتبرونه على الأرجح وسيطًا بينهم وبين أبيه. أخبرني أن أحد المتصلين المعتادين كان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي قال عنه: “في البداية كان في صفّنا ضد التدخل الغربي، ثم بدأ يقنعني بمغادرة البلاد”. أضاف أن أردوغان وصف الانتفاضات بأنها مؤامرة خارجية تُحاك منذ زمن بعيد. أما سيف الإسلام فيرى أن حرب 2011 قد انبثقت عن التقاء توترات داخلية كانت تعتمل منذ وقت طويل مع أطراف خارجية انتهازية، من بينهم الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي. وأضاف: “كانت عدّة أمور تحدث في آن واحد. زوبعة عارمة.”

أخبرني أنه شارك في القتال لفترة وجيزة في “باب العزيزية” عندما حاصر المتمردون طرابلس في أغسطس 2011. ويقال إن آخر ظهور له كان لتحميس المؤيدين وتوزيع الأسلحة في حي أبو سليم في طرابلس. بعدها فرّ إلى بلدة “بني وليد”، معقل النظام في المنطقة الجنوبية الشرقية، وبقي هناك حتى منتصف أكتوبر عندما أودت الضربة الجوية التي شنها الناتو بحياة 22 شخصًا من أتباعه وأصابته في يده اليمنى. فرّ أولًا إلى مدينة “سرت” ومنها إلى وادٍ صحراوي، بإصابة يده التي كانت تزداد سوءًا طوال هذا الوقت. استطاع التواصل مع عبد الله السنوسي، رئيس المخابرات في نظام أبيه، واتفقا على أن يلتقيا في المثلث الحدودي الجنوبي بين ليبيا والجزائر والنيجر. وبينما كان في طريقه إلى هناك، ألقى مقاتلو “الزنتان” القبض عليه. وصلت بعض الصور التي ظهر فيها ذليلًا إلى الصحافة؛ منها صورة يجلس فيها على كرسي ويده ملفوفة بضمادات بيضاء بينما يحيط به المقاتلون المنتصرون؛ وصورة داخل مروحية سوفيتية الصنع في طريقها إلى “الزنتان”، وبعدها اختفى تمامًا.

قال سيف الإسلام إنه لم يكن على اتصال بالعالم الخارجي خلال السنوات الأولى من اعتقاله، وأنه قضى بعض هذه الفترة في مكان أشبه بالكهف، وهي غرفة تحت الأرض شُقّت وسط الصحراء أسفل منزل في بلدة “الزنتان”. لم يكن بالغرفة أي نوافذ، ولم يكن يميّز الليل عن النهار أغلب الوقت. كان وحيدًا تمامًا، وأدرك أنه قد يموت في أي لحظة، فازداد إيمانًا. وذات يوم في مطلع عام 2014، تلقى زيارةً غيرت مجرى حياته. اندفع رجلان من كتيبة الزنتان إلى غرفته الصغيرة. بدا عليهما الغضب والانزعاج وأرادا التحدث.

شارك هذان الرجلان في حركة التمرد ضد القذافي، لكن وحدة الثوار لم يعد لها مكان الآن. كان لأحدهما ابن أصيب بطلقة في رأسه أثناء تبادل إطلاق النار مع ميليشيا منافسة من مدينة “مصراتة” على ساحل البحر المتوسط. أعرب الرجلان عن شعورهما بالحسرة، ولم يكن هذا الشعور نابعًا من خسارتهما الشخصية فحسب. وقفا محنيَّي الظهور داخل الغرفة – التي كانت تتسع بالكاد لثلاثتهم – وأخذا يسبّان الثورة ويقولان إنها كانت غلطة وإن سيف الإسلام وأباه كانا محقّين.

قال سيف إنه ظل يستمع إليهما وهو يشعر بأن شيئًا ما يتغيّر. كانت الثورة تلتهم أبناءها. في النهاية، سيشعر الليبيون بإحباط شديد لدرجة أنهم سينظرون إلى الماضي ويشعرون بالحنين إلى عهد القذافي. وهذا بدوره قد يهيئ له الفرصة ليستعيد كل ما فقده.

صَدَق حدسُ سيف الإسلام، إذ كانت ليبيا على مشارف مرحلة انتقالية حاسمة. استمرت فترة الأمل التي أعقبت الثورة حتى صيف عام 2012، عندما أجرت ليبيا انتخابات اعتُبرت حرة ونزيهة إلى حدٍّ ما. لكن في وقت لاحق من العام نفسه، تفاقمت الاغتيالات وحوادث الاختطاف، وانقلب المتمردون بعضهم على بعض، وبدأ الجهاديون الذين اغتالوا ستيفنز في ترويع أهالي بنغازي. وفي عام 2013، ساعد زعماء الفصائل في مدينة “مصراتة” – الذين نصّبوا أنفسهم حماة الثورة – في إقرار تدابير قانونية قضت بإقصاء منافسيهم خارج الحكومة. وبحلول منتصف العام التالي، عندما زار الرجلان سيف الإسلام في غرفته – كانت البلاد في طريقها نحو حرب أهلية. وسرعان ما ظهرت حكومتان متناحرتان، ثم ثلاث حكومات. وخلْف المجموعات السياسية الرسمية كانت هناك مئات الفصائل المسلحة بولاءات وعداوات دائمة التغير.

لا يزال هذا الوضع قائمًا اليوم في ليبيا. فالميليشيات المحلية هي القوة العسكرية الأكثر نفوذًا في الدولة ولديها سلطة فيتو غير معلنة. عندما كنت في طرابلس في شهر مايو، استولت جماعة من الميليشيا على فندق في وسط المدينة يتخذه عدد من كبار المسئولين الحكوميين مقرًا لهم، إثر خلاف على رئاسة جهاز المخابرات. أعقب ذلك اجتماع محتدم كان من الممكن أن يؤدي إلى تجدد أعمال القتال. فعجز الحكومة وغياب نفوذها يسببان حرجًا دائمًا لكثير من الشخصيات العامة في ليبيا. وصل الأمر أن أغلب المسئولين يتفادون استخدام كلمة ميليشيا لأن هذه الجماعات المسلحة تفضّل كلمة “كتائب”. يقول خالد المشري: “نظريًّا، تتبع الميليشيات وزارتي الداخلية والدفاع، لكنها في الواقع ليست كذلك.”

من بين السياسيين الليبيين، لفت الأنظار شخصٌ معروفٌ بمواقفه الحازمة تجاه الميليشيات وهو أحد خصوم سيف المحتملين في الانتخابات الرئاسية. إنه فتحي باشاغا، طيار حربي سابق يبلغ من العمر 58 عامًا، شغل منصب وزير الداخلية في حكومة الوفاق الوطني من عام 2018 وحتى العام الماضي. يعتبر الكثيرون باشاغا شخصًا كفؤًا نزيهًا، وقد نال إعجاب الكثيرين أثناء رحلاته إلى واشنطن والعواصم الأوروبية عام 2019 لطلب الدعم في قطع مصادر التمويل عن قادة الميليشيات الأشد خطرًا. كما قاد الجهود لبناء جهاز شرطة جديد في إطار مبادرة تهدف إلى إنشاء مؤسسات وطنية بحقّ. وهذا العام، عندما ذاعت أنباء عدم انتخابه رئيسًا للوزراء في الحكومة الانتقالية الجديدة، أطلقت بعض الميليشيات الألعاب النارية احتفالًا بالخبر.

ذات ليلة من شهر مايو، التقيتُ باشاغا – وهو رجل طويل القامة أشيب الشعر ذو مظهر رصين – في أحد الفنادق في مسقط رأسه “مصراتة”. عندما سألتُه عن مساعيه لنزع سلاح الميليشيات، قال إن هذه المسألة تتصدر قائمة أولوياته. تحدّث عن نظام لتصنيف هذه الجماعات: أفراد الفئة الخضراء يمكن تعيينهم في الأجهزة الأمنية الحكومية، وأفراد الفئة البرتقالية يحتاجون إلى إعادة التدريب، أما أفراد الفئة الحمراء فهم مجرمون يجب القبض عليهم. من الواضح أنه ردد هذه الجملة مرات عديدة. كان يعمل على حملته الانتخابية عندما قابلتُه، وسافر إلى أوروبا بعد ذلك لحشد الدعم لترشحه للرئاسة.

لكن مواقف باشاغا – في المنصب وخارجه – أوضحت مدى صعوبة التحرّر من قبضة الميليشيات. فهو مدين سياسيًّا لجماعات مسلحة ذات نفوذ في “مصراتة”. ورغم استعداده لمواجهة ميليشيات طرابلس، يرى كثيرون أنه قد لا يتخذ نفس الموقف داخل بلدته. في العام الماضي، أوقفه فايز السرّاج، رئيس الوزراء في حكومة الوفاق الوطني، عن العمل على خلفية استخدامه العنف مع المتظاهرين. وعندما عاد باشاغا – الذي كان خارج البلاد آنذاك – إلى العاصمة، خرج في استقباله حشد كبير من مقاتلي الميليشيا في “مصراتة”. فهم رئيس الوزراء الرسالة وأعاده على الفور إلى منصبه. وهذا السلوك هو الذي جعل باشاغا لا يحظى بأي شعبية بين الليبيين في المدن الأخرى الذين طالما استهجنوا أساليب العنف التي ينتهجها في “مصراتة”.

الخصم الآخر أمام سيف الإسلام هو خليفة حفتر الذي يسيطر على معظم شرق ليبيا. شارك حفتر، وهو قائد عسكري مخضرم يبلغ من العمر 77 عامًا، عريض المنكبين ممتلئ الوجه، في انقلاب عام 1969 الذي وضع معمّر القذافي على سدّة الحكم. انفصل حفتر عن القذافي في وقت لاحق، وانتقل، بمساعدة وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، إلى الولايات المتحدة حيث قضى عقدين من الزمان في شمال فرجينيا. وعاد حفتر إلى ليبيا ليشارك في الثورة عام 2011. وفي عام 2014، أطلق “عملية الكرامة” حيث قدّم نفسه على أنه وطنيّ قادرٌ على تطهير ليبيا من الميليشيات. بدأ عمله في شرق البلاد بالتركيز على الجماعات الإسلامية المتطرفة التي زاد نفوذها هناك. لكن طموحاته كانت أكبر من ذلك، وسرعان ما دبّ الخلاف بينه وبين الحكومة المنتخبة في طرابلس والميليشيات التي تدعمها. بدأ حفتر في الحصول على الأسلحة والدعم من بعض الممولين الخارجيين الذين راق لهم نهجه الحازم، ومنهم مصر وفرنسا وروسيا والإمارات، ونجح في استعادة النظام في شرق ليبيا، وإن كان نظامًا قمعيًّا أوتوقراطيًّا.

وفي ربيع 2019، اتخذ حفتر قرارًا أنزل الويل بالشعب الليبي، وشوّه سمعة حفتر نفسه، وعزّز مساعي سيف الإسلام للعودة إلى السلطة. فقد اقتحمت قواته المسلحة العربية الليبية غرب البلاد واستولت على حقول النفط والقواعد الجوية ودفعت الأموال للخصوم. يبدو أن حفتر ومؤيديه قد ظنوا أن تفوقه العسكري – بترسانة أسلحته من دبابات ومروحيات مقاتلة وطائرات مسيّرة حديثة – سيتيح له الاستيلاء على العاصمة وفرض سطوته على الدولة بالكامل، تمهيدًا لإجراء انتخابات تمنحه الشرعية (بعد إزاحة الخصوم مثل سيف الإسلام من طريقه). لكن اتضح أنه استهان كثيرًا بقوة وصمود الميليشيا في غرب ليبيا، وأنه نسي أن ميزة التفوق في حرب المدن تكمن دائمًا مع المدافعين.

التقيتُ أحد الرجال الذين بدّدوا حلم حفتر. إنه يوسف بن لامين، 50 عامًا، أحد قدامى المقاتلين في الميليشيا، وهو رجل قوي البنية رأسه مستدير أصلع وعضلات ساعديه مفتولة وله لحية شعثاء. أخبرني أنه لم يصدق أن حفتر سيخاطر بشن هجوم على العاصمة إلى أن بدأ رنين هاتفه معلنًا أن جيش حفتر يتجه شمالًا نحو طرابلس. استدعى بن لامين رجاله، وقبل مرور وقت طويل كانوا في طريقهم من “مصراتة” باتجاه الغرب ضمن موكب من شاحنات النقل الصغيرة. عندما وصلوا ضاحية “عين زارة” جنوب طرابلس، كانت قوات حفتر قد وصلت لتوّها. تجمّع آلاف من عناصر الميليشيا في طرابلس للدفاع عنها. لم يكن أحد يعرف من هو المسئول في ظل هذا الوضع، ولم يكن أيّ منهم على دراية بالمنطقة. أخبرني بن لامين أنه وجد نفسه واقفًا على بعد خطوات من مقاتل لم يكن يعرفه.

نادى عليه قائلًا: “مع من تكون؟”

نظر إليه المقاتل، وأدرك كلّ واحد منهما أنه يواجه عدوه. رفع المقاتل الآخر بندقيته وصوبها نحو بن لامين، ولكنه خطا خطوة إلى الوراء وتعثر فاختل توازن بندقيته. قال بن لامين: “عندما أطلق الرصاصة، لم تقتلني بل أصابت ساقي.” وسرعان ما فتح رفاقه المصراتيين النار على المقاتل وأردوه قتيلًا.

في اليوم نفسه، استيقظ أهالي المنطقة ليجدوا أن حفتر قد حوّل طرابلس وضواحيها إلى منطقة حرب جديدة. أخبرني عمر أبو عبيد، وهو مزارع وتاجر من “عين زارة”، أنه كان في منزله عندما سمع هدير السيارات الضخمة على مسافة قريبة. توجّه إلى الطريق ورأى طابورًا طويلًا من الشاحنات المصفحة والدبابات المتجهة شمالًا. كان قد سمع شائعات بأن حفتر قد يشن هجومًا لكنه لم يصدقها.

قال أبو عبيد: “أعدنا الأبناء من خارج المنزل وأغلقنا متاجرنا”. كان يظن أن جيش حفتر سيواصل طريقه إلى طرابلس، لكن سرعان ما بدأ الجنود بالاستيلاء على المنازل وبناء التحصينات. كانت رحى الحرب تدور على عتبة داره. قضى عمر وشقيقه عبد المعلا سنوات في بناء منازلهم وزراعة بستان من أشجار النخيل. كانت الأم والأشقاء يعيشون في منزل مجاور، والأسرة تمتلك مخبزًا قريبًا ومتجرًا لبيع مواد ومعدات البناء. أرسل عمر وشقيقه أسرتيهما إلى مكان آمن في طرابلس وبقيا في البلدة لحماية بيوتهما. وبعد نحو أسبوعين، أجبرهما جنود حفتر على المغادرة، حيث أخذوا يحولون البيوت إلى ثكنات عسكرية ويذبحون الماشية للطعام. توقف القتال من أجل السيطرة على طرابلس في الضواحي الجنوبية، واستمر على نفس المنوال حتى 5 يونيو 2020 عندما تخلّى حفتر أخيرًا عن محاولته وتقهقرت قواته نحو الجنوب.

عندما عاد عمر وعبد المعلا إلى منازلهم، وجداها خرابًا. خلت تلك المساحة الشاسعة إلا من الأنقاض والجدران المتهدمة. اختفت أغلب أشجار النخيل التي زرعها عمر، والقلة القليلة المتبقية منها كانت إما ممزقة أو محروقة بفعل النيران. دُمّرت بيوتهما ومتاجرهما، وتناثرت أغلفة الرصاص في كل مكان، واكتست الجدران برسوم تمجّد حفتر والقذافي. وعجّت الحقول المجاورة بالألغام، فكانت سببًا في مقتل عدد من الأطفال العام الماضي.

غلب الحزن على عبد المعلا وهو يحدّق في الدمار الذي لحق بحياته حتى إنه أصيب بسكتة دماغية. سقط أرضًا، وحين استفاق وجد نفسه مصابًا بشلل في الجانب الأيمن من جسده. عندما التقيتُه في مايو، بعد عام تقريبًا، كان يجلس على كرسي متحرك خارج ما تبقى من منزله، مرتديًا بدلة رياضية داكنة وعاجزًا عن التحكم في ساقه المرتعشة. عندما حاول عبد المعلا، ببنيته النحيفة ووجهه الطويل الوسيم، أن يصف ما حدث يوم عودته، تسارعت أنفاسه وأجهش بالبكاء ولم يستطع الحديث. أبلغني أخوه عمر أنه ذهب بعبد المعلا إلى عيادة خاصة لكنهم طلبوا أموالًا لم تستطع الأسرة دفعها. وعندما ذهب به إلى مستشفى حكومي، أخبره الأطباء أنهم لا يستطيعون مساعدته.

سألتُ عبد المعلا إن كان بمقدور الليبيين أن يسامحوا بعضهم البعض على كل تلك الحروب الأهلية، هزّ رأسه بقوة.

قال عمر: “كيف أعفو عمن آذى أبي وأصاب أخي بالشلل ونهب ممتلكاتي؟ يأمرنا نبيُّنا بالعفو عند المقدرة، وأنا لا أقدر.”

كان “الفسادأحد الهتافات التي سُمع دويّها في انتفاضات الربيع العربي عام 2011. فالظلم الاقتصادي الذي تجاوز الحد في الأنظمة الديكتاتورية، حيث تنعم قلة قليلة بالثراء الفاحش وتعيش غالبية الشعب في فقر مدقع، هو ما تسبب في انهيار هذه الأنظمة. لذا لم أكن أتوقع أن يتبنى سيف الإسلام نفس الخطاب أثناء حديثي معه. قال لي إن ليبيا أنفقت على مدار العقد الأخير مليارات الدولارات “دون بناء مشروع واحد، ودون وضع حجر بناء واحد”. وأضاف أن تلك الأموال ذهبت إلى المتربحين الذين “يمولون ويدعمون الميليشيات الصغيرة حتى يضمنوا استمرارية هذه اللعبة”.

قد يصبح ذلك شعارًا مُجديًا لحملة سيف الإسلام الانتخابية. فوفقًا لأحد استطلاعات الرأي، يأتي الفساد في مقدمة المشاكل التي يعاني منها الليبيون متقدمًا على الإرهاب والبطالة وفشل القيادة. اغتنى القادة العسكريون الجدد، الذين كانوا على الأغلب فقراء حتى عام 2011، بنفس الطريقة التي اغتنى بها معمر القذافي وعائلته؛ أي عن طريق نهب أموال النفط في البلاد. لكن على عكس عائلة القذافي الذين كانوا يوزعون عائدات النفط كما يحلو لهم، تحصل النخبة الجديدة على حصتها غالبًا عن طريق الاحتيال والاختلاس والتهريب. تتنوع الخطط وتتعدد، لكن نجاحها يظل مرهونًا بتخطي رجل متواضع يجلس وحيدًا في مكتب أنيق مكسوٍّ بألواح رخامية في طرابلس. إنه صادق الكبير، محافظ المصرف المركزي الليبي، الذي يصرف الرواتب لجميع الأطراف المشاركة في الحرب الأهلية في ليبيا منذ اندلاعها. ربما يكون الكبير أكثر الأشخاص نفوذًا في ليبيا، رغم أن اسمه ليس معروفًا في الخارج.

تبدو شخصية صادق الكبير على النقيض من القذافي، ويمكن لسيف الإسلام أن يستخلص منه بعض الدروس. فبينما كانت عائلة القذافي منغمسة في مظاهر اللهو والترف – بملابس معمّر العسكرية الغريبة، وحراسته التي تتألف من النساء فقط، والنمور التي يربّيها سيف الإٍسلام – اختار الكبير حياةً بيروقراطية بسيطة. فهو يجلس أمام مكتب في نهاية غرفة أنيقة مزينة بفن زخرفي شيّدت في عهد الاستعمار الإيطالي قبل قرن من الزمان. غرفة المكتب شاسعة حتى إنني استغرقتُ عدة ثوان مربكة، لم يتوقف حذائي خلالها عن إصدار أصوات نقر على الأرضية الرخامية، إلى أن وصلتُ إليه وألقيتُ عليه التحية. والكبير رجل نحيل أصلع معقوف الأنف يبدو عليه التحفظ. كان يرتدي سترة بنية اللون بها بعض التجاعيد وربطة عنق زرقاء. بعد أن جلسنا، ألقى عليّ محاضرة قصيرة – بصوت هادئ لم يخلُ من الحزم – عن اقتصاد ليبيا.

يستمد الكبير نفوذه من سيطرة المصرف المركزي على عائدات النفط في ليبيا. إلى جانب ذلك، فهو يشرف على دفع رواتب الميليشيات الليبية، التي على الرغم من تناحرها وعدم احترامها للقانون، تتلقى رواتب من الدولة منذ عام 2011. أخبرني الكبير أن ليبيا الآن لديها أعلى نسبة من الموظفين الحكوميين على مستوى العالم، وهي مشكلة بدأت في عهد القذافي الذي دمّر القطاع الخاص ثم اشترى السلْم الاجتماعي بتوزيع عدد لا حصر له من الوظائف الحكومية التي يتقاضى كثير من شاغليها رواتبهم دون الذهاب إلى العمل. والآن تنفق الدولة أموالًا طائلة على الدعم الحكومي حتى إن سعر البنزين أقل من سعر المياه، وهو ما أدى إلى استمرار عمليات التهريب على نطاق واسع. استخدم الفرع الشرقي للمصرف المركزي في “بنغازي” دنانير ليبية مطبوعة في روسيا في بعض الأحيان، وهو ما علّق عليه الكبير قائلًا: “اتخذنا قرارًا بعدم قبول تلك الدنانير، لكن البنوك التجارية قبلتها لاحقًا”، وبنبرة يائسة قال إن منصبه “استثنائي قطعًا”.

أحد الألغاز الكبرى المحيطة بصادق الكبير هو كيفية احتفاظه بمنصبه طوال هذه الفترة، فلا توجد شخصية سياسية أخرى لم تتأثر بما يحدث منذ عام 2011. كوّن الكبير عداوات كثيرة، لكن في كل مرة كان شخص ما يتدخل لحمايته. يرى الليبيون أنه ما من لغز هنا؛ فقد لعب الكبير أوراقه بدهاء وقدّم خدماته للبعض تارةً وغض الطرف عن الآخرين تارةً أخرى. أضف إلى ذلك أنه يملك سلطة زيادة أو تقليص الفارق بين أسعار الصرف الرسمية في ليبيا وأسعار صرف السوق السوداء. وهذا الفارق يصل إلى مستويات هائلة في بعض الأحيان. وبإتاحة سعر الصرف الرسمي لأفراد بعينهم، يستطيع الكبير أن يجعل أثرياء ليبيا الجدد أكثر ثراءً. ووفقًا لمنظمة “جلوبال ويتنس” غير الحكومية في لندن، فقد أدار المصرف المركزي على الأرجح مخططات استيراد زائفة باستخدام خطابات اعتماد مزورة. أقرّ الكبير باختفاء أموال كثيرة في بعض الأحيان. وفي العام الماضي، وجّه رئيس المؤسسة الوطنية للنفط في ليبيا اتهامًا لصادق الكبير بإهدار مليارات الدولارات من أموال النفط وصرفها على “القطط السمان”.

نقل الكبير أسرته إلى بريطانيا قبل سنوات، وبعدها نقلهم إلى تركيا التي ربما تكون ملاذًا أفضل لهم الآن في ظل دعوة البعض إلى محاسبته. لا شك أنه يتمتع بفطنة وذكاء حادّ.

عندما سألتُه عن اتهامات الاختلاس، قال إنه لم يرتكب أي مخالفة وإن المصرف اتخذ التدابير اللازمة لمكافحة غسيل الأموال والاحتيال. صحيحٌ أن مليارات الدولارات قد اختفت، لكن بالحديث عن المعاملات المزورة التي سهّلت تلك الجرائم، قال إن “مسئولية رئيس المصرف تقتصر على المستندات.” وأضاف: “العاملون على الحدود لديهم سلطة التحقق من سلامتها”. لا يمكن لشخص واحد أن يتحمل المسئولية عن إخفاقات الدولة. انتهت المقابلة بعدها مباشرةً. ارتسمت على وجهه ابتسامة دمثة قبل أن يرافقني إلى خارج مكتبه الواسع ويودّعني.

خلال لقائنا، عاود سيف الإسلام الحديث مرارًا وتكرارًا عن غياب مفهوم الدولة في ليبيا منذ عام 2011. فعلى حد قوله، لم تكن الحكومات المختلفة التي حكمت البلاد منذ ذلك الحين سوى مجموعة من المسلّحين يرتدون البدلات. وأضاف: “ليس من مصلحتهم أن تكون لدينا حكومة قوية، ولذا فهم يخشون الانتخابات. إنهم يعارضون فكرة وجود رئيس ودولة وحكومة ذات شرعية مستمدة من الشعب”. النتيجة المنطقية واضحةٌ: يبدو أن سيف الإسلام يرى أنه الوحيد القادر على تمثيل الدولة التي تجمع تحت رايتها جميع الليبيين.

هذا الافتراض بتوارث الحكم ينم عن عجرفة بالغة، لا سيما وأن معمّر القذافي نفسه تفاخر بتجاوز فكرة الدولة عندما أطلق على ليبيا اسم “الجماهيرية”. وربما كانت أعمق جرائم القذافي أثرًا وديمومة هي تدميره للمؤسسات المدنية في الدولة. ففي عهده عاش الليبيون في حالة خوف دائم على حياتهم وممتلكاتهم بسبب قراراته العشوائية، ولم تكن لجانه الثورية سوى حفنة من المتعصبين الذين روّعوا عامة الشعب وامتلكوا صلاحية الزج بهم في السجن متى ما أرادوا. في عام 2011، سادت حالة من الخلط الدائم حول كلمة “ثوري”، لأن كلًا من المعارضين والموالين سمّوا أنفسهم ثوريين. والحقيقة أنهم انتهجوا نفس الأساليب في كثير من الأحيان. ويمكن القول إن ما حدث في ليبيا بعد عام 2011 لم يكن ثورة على القذافي بقدر ما كان استنساخًا لأساليبه على نطاق محلي. أخبرني غسّان سلامة، وهو دبلوماسي لبناني ومبعوث سابق للأمم المتحدة لدى ليبيا: “ليبيا لم تنقسم، بل انفجرت على نفسها”.

على مدار العام الماضي، استأثرت باهتمام الليبيين جريمة وحشية بدت وكأنها تجسّد جميع مساوئ عهد القذافي. وقعت هذه الجريمة في بلدة “ترهونة” الزراعية التي تبعد ساعة بالسيارة جنوب شرقي العاصمة. ففي شهر يونيو من هذا العام، وبعد أن طُردت الميليشيا الحاكمة – بقيادة مجموعة أشقاء من عائلة “الكاني” – من البلدة، عثر الأهالي على أشلاء بشرية بالقرب من بستان زيتون على أطراف البلدة. كشفت فرق التنقيب عن 120 جثة، وسرعان ما اكتُشفت مقابر جماعية أخرى حيث أبلغت أكثر من 350 أسرة عن ذويهم المفقودين. وكان من بين الضحايا نساء وأطفال؛ بعضهم أُطلق عليه الرصاص 16 مرة. وعندما تكشّفت تفاصيل هذه الجرائم، عادت إلى الأذهان فترة الرعب التي استمرت قرابة ثماني سنوات. لم يفعل أحدٌ شيئًا للتصدي لميليشيا “الكاني”، لأنهم وضعوا أنفسهم في خدمة النخبة السياسية في ليبيا عن طريق التحالف أولًا مع الزعماء السياسيين في طرابلس ولاحقًا مع حفتر، فتحولت “ترهونة” في عهدهم إلى دولة بوليسية تذكّر بعهد القذافي: ستة أشقاء يفرضون سطوتهم على كل شيء ويروّعون الناس، وكلّ ذلك باسم الثورة.

أحد أكثر الشهود الذين التقيتُهم تحريكًا للمشاعر كان معاذ الفلوس؛ وهو صبي في التاسعة من العمر، ممتلئ الجسم قليلًا ذو وجه جميل وعينين بنيتين واسعتين ومفتوحتين تمامًا كأنه يحدّق في شيء لا يستطيع نسيانه. قابلتُه في غرفة المعيشة في منزل أسرته حيث جلس واضعًا إحدى يديه فوق الأخرى في حِجْره. تحدث بصوت عال وهادئ، فقال إن الأسرة كانت تشاهد التلفاز مساء أحد أيام الجمعة في ربيع العام الماضي عندما طرق أحدٌ الباب. دخل أربعة أو خمسة مسلّحين وقالوا إنهم سيأخذون جميع الذكور في الأسرة للتحقيق. سمحوا لوالد معاذ بقيادة سيارته برفقة أبنائه الأربعة وهو ما منحهم شعورًا بالطمأنينة. لكن عندما وصلوا إلى الطريق الرئيسي، توقف المسلّحون ونقلوا الأبناء إلى سيارتهم.

قال معاذ إن المسلّحين قادوا السيارة بالأبناء إلى أحد المنازل، ثم طلبوا منهم أن يخرجوا ويقفوا بمواجهة جدار. كان أشقاؤه الثلاثة يقفون إلى جواره: عبد الرحمن 16 عامًا، وعبد الملك 15 عامًا، ومحمد 10 أعوام. استطرد معاذ بصوته الهادئ: “سمعنا صوت إطلاق الرصاص. شاهدتُ أشقائي يتساقطون على الأرض أمامي.” وبينما كان يحدّق فزعًا في جثث أشقائه، قال زعيمهم – وهو رجل حليق الرأس – إنه سيُبقي على معاذ حيًّا ليكون “إنذارًا لمن لا يطيعنا”. احتجزوا معاذ داخل زنزانة لمدة أسبوعين قبل أن يطلقوا سراحه على ناصية أحد شوارع البلدة. وسرعان ما اكتشف أن والده – الذي كان يمتلك متجرًا لتحويل الأموال طمعت فيه ميليشيا “الكاني” – قد قُتل أيضًا. كانت الجثث الأربع أول ما عثر عليه خبراء الطب الشرعي عندما اكتُشفت المقابر الجماعية في “ترهونة” هذا العام.

الرجل الذي قتل أشقاء معاذ هو عبد الرحيم الكاني، أكثر أفراد هذه العائلة إشاعةً للرعب في البلدة. ويبدو أنه شارك القذافي حسّه المسرحي البغيض، إذ كان يبلّغ ضحاياه بأنهم سيٌقتلون ويردد عبارة أصبحت معروفة في البلدة وهي “سوف تقابل الرجل الكبير”. كان أفراد عائلة “الكاني” – وهي عائلة فقيرة وصلت إلى السلطة عن طريق تأييد الثورة عام 2011 – يربّون الأسُود ويستعرضونها في شاحناتهم وسط شوارع المدينة. أقاموا سجنًا سريًّا كانوا يجبرون السجناء فيه على الجلوس داخل صناديق معدنية صغيرة جدًّا حتى إنهم يضطرون لثني أطرافهم ليتسع الصندوق لهم. أراني سجين سابق، وهو شاب مثقلٌ بالهموم يُدعى علي أبو زويدة، صواني معدنية كان السجّانون يملأونها بجمر ملتهب ويضعونها فوق تلك الصناديق، فترتفع الحرارة داخل الصندوق إلى درجة لا تُحتمل. يقول أبو زويدة: “كان الوضع مرعبًا بالداخل. يومٌ واحدٌ أشبه بعامٍ كامل.”

قبل أن أترك معاذ وأسرته، رأيته يقف بجوار حائط كُتبت عليه بحروف كبيرة أسماء أشقائه الراحلين، وعرفتُ أنه هو الذي كتبها. أخبرتني الأم: “كان يكتب أسماءهم في كل مكان عندما عاد”، مضيفةً أنها لا تزال تخشى على بقية أطفالها حتى بعد رحيل جماعة “الكاني”. “لن نشعر بالأمان ما دامت الأسلحة في أيدي الميليشيات. لا يزال المجرمون أحرارًا طلقاء”.

لديّ اعتراف هنا: لقد اجتذبتني إلى ليبيا فكرةٌ خيالية. خسر سيف الإسلام كلّ شيء، وشاهد بعينيه مقتل عدد من أفراد عائلته، وقضى سنوات في سجن انفرادي. لا شكّ أنه ذاق مرارة المعاناة. أخبرني أحد المقربين منه أنه تغيّر ونضج وأصبح متواضعًا، بل ربما يكون الآن جديرًا بالدور المَلَكي الذي أُعِدَّ له. كنت أعرف أنه أمرٌ مستبعد، لكن احتمالية الفكرة أَسَرَتني، ربما لأنني قضيت وقتًا طويلًا أغطي ثورات الربيع العربي وتبعاتها البائسة. كنت في أمسّ الحاجة لأن أجد شخصًا يكسر هذه الحلقة التي استمرت سنوات طويلة ويجد سبيلًا للخروج من شَرَك الطغيان والتعصب الديني. اعتدتُ أن أستلقي في فراشي أتخيل خطابات ربما كانت تسدّ الفجوة وتحول دون وقوع مذبحة في القاهرة أو حرب في دمشق. لم أستطع قبول فكرة أن الناس لا يتغيرون أو أنهم لا يستطيعون التسامي فوق القوى التي صنعتهم.

خلال الوقت الذي قضيته في ليبيا، بدأت أرى أن هذا الشعور سائد في كل مكان. أصبح سيف الإسلام، في نظر كثير من الليبيين، أشبه بفنتازيا وطنية جمعية. يرون غموضه بلسمًا لهم. إنهم يريدون أن يصدقوا أنه تغيّر وتعلّم الدرس. فبعد سنوات عديدة من اليأس وخيبة الأمل، صاروا في أمسّ الحاجة لمخلّص ينقذهم. أخبرني محام ليبي: “أعتقد أن الناس يبحثون عن أسطورة خلاص، ويتمنون أن يعود شخصًا جديدًا”. نفس هذه الفنتازيا البائسة تحيط بالرئيس السوري بشار الأسد الذي ورث الحكم من أبيه وسط تعليق الآمال على أفكاره الإصلاحية والذي بدلًا من ذلك شن حربًا أهلية تسببت في مقتل نصف مليون سوري. وهناك أمثلة عديدة لحكام مستبدين أسروا خيال الناس بنفس الطريقة: إذا أصبح الحاكم والدولة كيانًا واحدًا لا ينفصل أحدهما عن الآخر، يكون الخيار الوحيد أمامك أن تحلُم بأن الحاكم قد يتغير.

سيف الإسلام، برأيي، يعي ذلك. فهو يدرك أن اختفاءه هو السبيل لإحياء شعبيته، وهو حريصٌ أشد الحرص على الاحتفاظ بهالة من الغموض حوله حتى إنني عندما التقيتُه في “الزنتان”، كان مترددًا بشأن السماح لنا بتصويره. وافق في بداية الأمر على التقاط صور جانبية، لكنه أخذ يشيح بوجهه عن الكاميرا وأصرّ على تغطية جزء من وجهه باستخدام وشاح. حاول المصور، نجا، إقناعه بأن الصورة الأمامية ستجعله يبدو أكثر ثقةً لكن محاولاته لم تفلح. كان سلوكه محيّرًا جدًا مما دفعني إلى سؤاله عن السبب، فقال إنه يريد لهذه الصور أن تعطي انطباعًا بأن “هذا هو الرجل، لكن ليس واضحًا. إنه ليس واضحًا. مثل الشبح. ليس عليلًا؛ بل قوي. لكنه ليس واضحًا.”

طلبتُ منه أن يوضّح أكثر.

قال: “لقد قضيتُ عشر سنوات بعيدًا عن أنظار الليبيين. عليك أن تعود إليهم خطوةً خطوة. مثل راقصة تعرٍّ”، قالها ضاحكًا ثم أضاف: “عليك أن تلعب بعقولهم قليلًا.”

كان هناك شيء من التآمر في الطريقة التي نطق بها تلك الكلمات الساخرة. يبدو أنه ظنّ أنه يمكنه الوثوق بي؛ أني ربما أرغب في مشاركته في تضليل أبناء شعبه. لكن خلف هذه الواجهة المخادعة، لا يزال سيف الإسلام هو نفس الشخص الذي ينقصه النضوج كما كان قبل عشر سنوات. لم يتعلّم شيئًا من السنوات الطويلة التي قضاها في البريّة. فهو لا يزال يتحدث عن الديمقراطية ويقول إن ليبيا بحاجة إلى انتخابات حرة ونزيهة. إنه محقٌّ في أن الثورة جلبت ويلات على ليبيا وأن وضع البلاد الآن أسوأ، بصورة ما، مما كان عليه في عهد أبيه. لكن من الواضح أنه لم يفهم شيئًا عن المعاناة التي عاشها الليبيون، بل يبدو أنه لا يكترث. عندما سألتُه ما إذا كان يتعاطف بأي شكل مع المشاعر التي دفعت المتظاهرين للمطالبة بالتغيير عام 2011، كان ردّه قاطعًا: هؤلاء كانوا أشرارًا وإرهابيين وشياطين. سألتُه عن رأيه في ثورات الربيع العربي فقال دون لحظة تردّد واحدة: “العرب الحمقى دمّروا بلدانهم”.

ولدهشتي، استطرد قائلًا إنه لا يحمل أي انتقادات لعهد والده الذي استمر 40 عامًا، مشيرًا إلى أن بعض السياسات الاشتراكية في الثمانينات ربما تكون قد خرجت عن مسارها، لكن والده أدرك ذلك وصحّح الوضع. سألتُه عن “الكتاب الأخضر”، وهو كتيّب شبيه بكتاب ماو تسي تونغ فرضه القذافي على الليبيين منذ طفولتهم، بتوليفته الغريبة من النظريات شبه الاشتراكية وبعض الترهات (مثل “النساء إناث والرجال ذكور”)، ألم يكن ذلك جنونًا؟

قال سيف: “لم يكن جنونًا. تناول الكتاب أمورًا أصبح الجميع يعرفونها اليوم”، مضيفًا أن مختلف الأفكار التي اكتسبت رواجًا في الغرب – مثل الاستفتاءات العامة، وخطط تملّك الموظفين للأسهم، ومخاطر الملاكمة والمصارعة – تعود أصولها إلى “الكتاب الأخضر”. بعدها سألتُه عن عاداته في القراءة، فذكر اسم كاتب أمريكي يُدعى روبرت جرين. بحثتُ عنه ووجدتُ أنه مؤلف مجموعة من كتب النصائح الأكثر مبيعًا والأكثر رواجًا بين نجوم الهيب هوب يتحدث فيها عن كيفية كسب قصب السبق والفوز بعلاقة جنسية.

من الواضح أنه لا يرى التناقض في شخصيتيه. تذكرتُ، وأنا أستمع إليه، دعوى التشهير التي رفعها ضد صحيفة “صنداي تليجراف” في التسعينات. كتب آنذاك إفادة شخصية قدمها للمحكمة لتفنيد مزاعم الصحيفة بأنه محتال وفاسد. كان وقتها في أواخر العشرينات من العمر وقد ظهر لتوّه على الساحة. وصف نفسه بأنه شاب عادي – وإن كان يحمل امتيازات غير عادية – لا يشغل أي منصب في النظام الليبي. قال إنه لم يخرق أي قانون عندما أحضر نِمْرَيه الأبيضين إلى فيينا، حيث كان يدرس لنيل ماجستير إدارة الأعمال – دون علمه على أي حال لأن شخصًا آخر قام بالترتيبات اللازمة.

كتب سيف في إفادته: “عندما وصلتُ إلى فيينا، تحدثتُ مع عمدة المدينة ورئيس حديقة حيوانات شونبرون بشأن النمرين. قال كلاهما إنه من دواعي سرورهما أن يستضيفا النمرين، اللذين ينتميان لفصيلة نادرة جدًا، في فيينا، وعليه رتّبنا لنقلهما”. أشار إلى أن السلطات النمساوية هددت بعدم تمديد تصريح إقامته. واستطرد: “لحسن الحظ أن الحكومة الليبية اتخذت موقفًا حاسمًا تجاه هذه الإهانة بحقي، وهددت الحكومة النمساوية بأنها ستمنع إصدار تأشيرات لدخول النمساويين إلى ليبيا إذا لم تتراجع عن هذا القرار. وعلى الفور تراجعت الحكومة النمساوية عن قرارها وسمحت لي بالبقاء. وقعت حادثة مشابهة في سويسرا عام 1997 عندما رفضت الحكومة السويسرية تمديد إقامتي، فهددتها الحكومة الليبية بفرض عقوبات.”

يتجاهل كاتب تلك السطور بطريقة هزلية الامتيازات المتوارثة التي يحظى بها. وعندما سألتُه عن طفولته، أخذ يخلط ذكرياته الشخصية بوقائع سياسية كبرى، فتذكّر والدته وهي توقظه في منتصف الليل لتأخذه إلى مخبأ يحتمون فيه من القنابل وهو في الرابعة عشرة من عمره. كان ذلك عام 1986 حين انهالت القنابل الأمريكية على “باب العزيزية” وأهداف ليبية أخرى ردًّا على تفجير ملهى ليلي في برلين قبل عشرة أيام. وفي الخامسة عشرة من عمره، سافر إلى بلغاريا حيث قابل رئيس الجمهورية وعقد أولى مؤتمراته الصحفية. وبعدها بعامين، ذهب إلى العراق وناقش الشأن السياسي مع صدام حسين. قال: “كنت أقرأ تقارير وكتبًا ووثائق سرية.”

أخبرني أنه بدأ يفكر في خوض غمار السياسة “في وقت مبكّر جدًّا”. فقد اختاره والده للوساطة مع الغرب بشأن بعض النزاعات التي تورطت فيها ليبيا بما في ذلك تفجير “لوكربي” الذي تسبب في مقتل 270 شخصًا. أخبرني أيضًا أن أكثر اللحظات فخرًا في مسيرته السياسية قبل عام 2011 كانت وساطته في 2009 لإطلاق سراح ضابط المخابرات الليبية عبد الباسط علي المقرحي، وهو المُدان الوحيد في قضية تفجيرات لوكربي. سألتُه عن السبب، فقال إنه وعد المقرحي بإعادته إلى البلاد. قال إنه لم يعرف الحقيقة الكاملة عن التفجيرات، وأن تلك الحقيقة طُمست بفعل المزاعم المتعارضة والثغرات في جمع الأدلة. (توصّل سيف إلى تسوية بقيمة مليارات الدولارات مع أسر الضحايا لكنه أشار مرارًا وتكرارًا إلى أن ليبيا اتُهمت زورًا في هذه القضية.) رغم ذلك، أخبرني بسرٍّ أثار دهشتي، وهو أن والده كان قد توقف عن امتطاء جواده بعد المذلة التي لحقت بليبيا جراء القصف الأمريكي لطرابلس عام 1986، وأنه عاود امتطاء الجواد بعد تفجيرات “لوكربي”. سواءٌ كان القذافي متواطئًا أم لا، فإن مقتل 270 شخصًا جعله يستعيد بشكل أو بآخر رباطة جأشه.

نشأ سيف الإسلام وهو يرى والده يمتدح نظامه الديكتاتوري ويصفه بالديمقراطية المثالية الوحيدة في العالم، وأظن أنه تعلّم في مرحلة مبكّرة من حياته أن نزاعات ليبيا مع الغرب تتطلب إتقان المواربة والكلام المزدوج. كان يريد أن يكسب إعجاب أصدقائه في أمريكا وأوروبا، وبسرعة أدرك أن الحديث بلغة غربية معينة – مثل الحديث عن الديمقراطية وحقوق الإنسان – سيجعل عهده أكثر سهولة وسلاسة من عهد أبيه. يبدو أنه كان لديه اهتمام صادق بهذه الأفكار، لكنه كان يراها هبةً للشعب تُمنح لهم بجرعات صغيرة. أما من يطالبون بشيء قبل أوانه، فيكون التعنيف مصيرهم. وهو الذي يمتلك الحق في تعنيفهم، وذلك الحق نابع من مبدأ راسخ وقاطع لدرجة أنه لم يضطر لذكره قط؛ وهو أنه قذافي.

ذات صباح في شهر مايو، توجهتُ بالسيارة مع صديق ليبي يُدعى طاهر إلى منطقة اليرموك خارج طرابلس. وعلى الطريق بجوار قاعدة عسكرية مقصوفة بالقنابل، أوقفنا السيارة ومشينا نحو مجمّع مهجور كان معتقلًا مؤقتًا لنظام القذافي. وبالقرب من الطريق رأينا مستودعًا مبنيًّا من الصاج أُضرمت فيه النيران قبل وقت طويل حتى تحول إلى لون الدماء الجافة. دخلنا المستودع ورأينا رسومًا وكتابات قديمة خطّها الثوار على الجدران: نقسم أن نلاحق من قتلكم، لن تضيع دماؤكم هباءً.

قبل عشر سنوات، وبينما كان سيف الإسلام يسلّح أنصار القذافي ويعدّ العدّة للفرار من العاصمة، صدر أمرٌ للضباط المسئولين عن سجن اليرموك. وتنفيذًا لذلك الأمر، بدأ الحرّاس بإلقاء القنابل اليدوية داخل المستودع الذي كان يضم نحو 150 رجلًا، ثم فتحوا النار عليهم. تمكن 20 رجلًا فقط من النجاة، بعضهم احتموا بجثث رفاقهم التي تساقطت فوقهم. عندما دخلتُ المستودع، بعدها بثلاثة أيام، رأيتُ خطًا رفيعًا من الدخان ما زال يتصاعد من المستودع. وفي الداخل، كانت عشرات الجماجم والعظام محترقة بالكامل حتى تغير لونها إلى لون أبيض رمادي باهت. وفي الخارج، كانت رائحة الجثث المتعفنة لا تُحتمل. وكانت الجثث في كل مكان، بعضها في أكوام، وأيادي الكثيرين من القتلى مكبلة بالأصفاد خلف ظهورهم. كل هؤلاء قُتلوا على يد جنود القذافي المنسحبين من المدينة.

طاهر، شاب قوي البنيان طويل القامة عمره 34 عامًا وصاحب حسّ فكاهة مروّع، كان أحد المعتقلين في ذلك المستودع، وكان قد خرج منه قُبيل وقوع المذبحة، لكنه يتذكر المعتقلين الذين اكتظ بهم المكان.

قال طاهر وهو يشير بإصبعه نحو بقعة خالية على الأرض: “كان هذا الركن للمعتقلين من مدينة الزاوية؛ وقد انضممتُ إليهم. وهنا، كان خليط من أهل المدينة؛ من طرابلس أساسًا. وبمحاذاة هذا الجدار كان أهل زليتن. كان هناك الكثيرون منهم.”

اكتظ المعتقل برجال من مختلف الأعمار والتخصصات: أطباء ومهندسين ومدرسين وعلماء دين. كثيرون منهم لم يكونوا حتى في صفوف المعارضين؛ بل كانوا مواطنين عاديين اعتُقلوا في حملات عشوائية خلال الأشهر الأخيرة من حكم القذافي. ومع ذلك، تعرض هؤلاء المعتقلون للتعذيب المستمر على يد الحراس الذين كانوا واقعين تحت تأثير الكحول أو المخدرات أغلب الوقت. أجبرهم الحراس على شرب البول، وضربوهم، وصعقوهم بالكهرباء، ووضعوهم في صندوق صغير داخل شاحنة لعدة أيام عندما كانت حرارة الصيف على أشدّها في ليبيا. قال طاهر بابتسامة متجهمة: “كان حمّام بخار مجاني.”

اكتسبت مذبحة اليرموك أهمية كبرى في ذلك الوقت، وكانت علامة بارزة ضمن سلسلة الجرائم العديدة التي ارتكبها نظام القذافي. أسّس الناجون وذويهم رابطة وتحدثوا عن بناء نصب تذكاري. أما طاهر وغيره فقد شكّلوا كتيبة شبه عسكرية ولاحقوا حراس سجن اليرموك واعتقلوهم، أملًا في أن تأتي حكومة شرعية تحاكمهم وتحقق العدالة. لكن ليبيا انهارت مجددًا وطغت على مذبحة اليرموك مذابح جديدة. ويمكن رؤية آثار الحروب التي حدثت لاحقًا من مستودع سجن اليرموك الذي يقع بالقرب من خطوط القتال في الحرب على طرابلس.

غطت الحرب الأهلية التي استمرت عقدًا من الزمن في ليبيا على الجريمة الوحشية الأسوأ في تاريخها الحديث، والتي راح ضحيتها 1200 معتقل في سجن أبو سليم عام 1996. وعلى ما يبدو فقد استخدم نظام القذافي في سجن أبو سليم نفس الأساليب التي استخدمها فيما بعد في سجن اليرموك؛ حيث ألقى الحراس القنابل اليدوية داخل فناء مسوّر مكتظ عن آخره بالمعتقلين ثم فتحوا النار عليهم. حاول النظام إخفاء جريمته؛ فدُفنت الجثث أول الأمر، وبعدها – بحسب شهادة موظفي السجن وسجناء سابقين أمام المحكمة – نُبِشت الجثث من تحت الأرض ووُضعت في أكياس وأُلقيت في البحر. وعقب الواقعة بسنوات ظل أهالي القتلى يزورون السجن حاملين الطعام والهدايا لذويهم، وكان الحراس يأخذونها منهم.

اجتذبت مذبحة أبو سليم اهتمام العالم، بل كان لها دور في إشعال فتيل الثورة عام 2011. فالمظاهرة التي نظمها أقارب الضحايا في بنغازي هي التي حركت الاحتجاجات. وبعد سقوط النظام في وقت لاحق من العام نفسه، ألقى الثوار القبض على عشرات الأشخاص الذين يُعتقد أنهم شاركوا في المذبحة أملًا في تحقيق العدالة. لكن مع وقوع ليبيا في دوامة الحرب مجددًا، لم تعد المذبحة تحظى بالكثير من الاهتمام. ولم يَمْثُل المتهمون أمام المحكمة حتى عام 2018، وتدريجيًّا أطلقت المحكمة سراحهم لأسباب إجرائية. وإلى اليوم، لم تتم إدانة شخص واحد في أبشع حادثة قتل جماعي في ليبيا. أخبرني علاء الدين الرقيق – شقيق أحد الضحايا – أن أسر الضحايا حاولت على مدار سنوات إقامة نصب تذكاري خارج السجن. “نريد نصبًا يقول: ‘لن يتكرر هذا مرة أخرى’.”

من مفارقات القدر أن سيف الإسلام ربما يكون الشخص الوحيد الذي قدّم الكثير لضحايا أبو سليم. فقد دعا منظمة “هيومان رايتس ووتش” إلى زيارة ليبيا عام 2005، ويبدو أنه أقنع والده بالاعتراف بمسئولية النظام عن الواقعة. عرضت السلطات دفع 200 ألف دينار ليبي لأسر الضحايا إذا تنازلوا عن الدعاوى المرفوعة ضد الحكومة، بحسب محامٍ وكّلته بعض الأسر، لكن أغلب الأسر رفضت هذه التعويضات.

رغم ذلك، عندما أتيتُ على ذكر أبو سليم في حديثي مع سيف الإسلام، أخبرني بنبرة واثقة أن معظم الليبيين يعتقدون أن النظام كان متساهلًا جدًّا وأنه كان ينبغي قتل جميع السجناء في سجن أبو سليم. قال: “اذهب إلى بنغازي، واسأل أي شخص. سوف يقولون لك ‘إنهم لم يُنهوا المهمة’.” والحقيقة أن بعض الليبيين يردّدون هذا الكلام، لا سيما في الأوساط التي تُعرف بأنها قاعدة للقذافيين، لكنه ليس رأيًا شائعًا.

سألتُه هل يؤيد الرأي القائل بأن مقتل 1200 شخص كان فكرة جيدة أم أنه يردّد ذلك الرأي فحسب، فأجاب أنه يعتقد بأنه كان هناك “استخدام مفرط للقوة” في سجن أبو سليم. لكن من الواضح أن سيف الإسلام أتقن سياسة “صفير الكلاب” التي انتهجها ترامب مع أتباعه المتعطشين للعنف. فقد ظل يردّد متعمدًا الادعاء الزائف بأن جميع ضحايا أبو سليم كانوا إرهابيين إسلاميين، وقال: لقد شاهد الناس ما فعلوه في السنوات العشر الأخيرة”.

لم أملك سوى أن أتساءل هل سيتورّع سيف الإسلام، لو سنحت له الفرصة، عن إصدار أمر بإلقاء القنابل اليدوية داخل زنزانة في أحد السجون؟ يبدو أن أعدادًا كبيرة جدًّا من الليبيين لا وجود لهم داخل دائرة تعاطفه. خلال حديثنا الأخير، سألتُه إن كان قد وجد غرابةً في الاحتماء بمنازل مؤيدي القذافي بعد فراره من طرابلس عام 2011. فهؤلاء الناس كانوا لا يرونه إلا نادرًا، وفجأةً أتاهم لاجئًا. هل غيرتْ هذه التجربة نظرته؟

بدت عليه الحيرة من سؤالي، وقال: “نحن نشبه السمك والشعب الليبي يشبه البحر. من دونهم نموت. هنا نحصل على الدعم. هنا نختبئ. هنا نقاتل. نحن نحصل على الدعم من هذا المكان. الشعب الليبي هو البحرُ لنا.”


روبرت وورث كاتب مساهم في المجلة، والرئيس السابق لمكتب النيويورك تايمز في بيروت. نال جائزة ليونيل غلبر عام 2017 عن كتابه “غضب من أجل النظام” الذي يتناول انتفاضات الدول العربية في 2011.

جهاد نجا مصور فوتوغرافي قضى السنوات الأولى من حياته المهنية بين ليبيا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة.

في عام 2011، شاركا معًا في تغطية الثورة في ليبيا للمجلة.



Robert F. Worth – NYT > World > Africa

About The Author

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée.

CAPTCHA